سقط الطغاة فمن يحاكم العسكر؟


تستحضرني ثلاثة صور للعسكر، تعكس العقيدة العسكرية والــمكانة القــــضائية والاستبداد والطغيان. الصورة الأولى غربية، فيها انصاع الكولونيل اوليفر نورث لأوامر الرئيس الأمريكي ريغان، عندما أشرف على عملية بيع أسلحة لإيران عن طريق إسرائيل،  توظف مبيعاتها (والتي تدفع عن إسرائيل نيابة عن إيران) إلى المعارضة في نيكاراغوا (الكونتراز) مقابل تدخل إيران لدى حزب الله لتحرير ستة من الرهائن الأمريكان لدى حزب الله في لبنان. وهذه العملية مخالفة لقانون منع بيع الســـلاح الأمريكي لدولة إرهابية (إيران)، ولقرار الكونجرس الذي منع دعم المعارضة.  أنكر ريغان تورطه في هذه العملية، وانه لم يأمر نورث،  وتمت محاكمة نورث لمخالفته القانون وقرار الكونجرس، عــــلما أن المخالــــفة هنا كانت من أجل تحرير رهائن أمريكان. وتمت المحاكمة بصورة علنية شاهدها العــــالم بأسره، وأعجب الشعب الأمريكي بشخصية نورث، وتقدم حوالي 40 مليون التماس يطلبون عـدم محاكمته، ولم تشفع له ال 40 مليون التماس، ولا نبل الهدف الذي غامر من اجله، فتمت المـــحاكمة واحــــترم القانون واحترم القضاء واحترم الكونجرس. العسكر مسئولون عن تصرفاتهم وقت الحرب ووقــــــت العصيان ووقت السلم، حتى لو كان مُصدر الأمر الرئيس، لا يعفي من المحاسبة والمحاكمة إن كـان ذلك مخالفا للقانون.  مطلوب من العسكر رفض الأمر إن كان مخالفا للقانون بغض النظر عن السلطة. حُـــــكم نورث لأنه خالف القانون وخالف قرار الكونجرس. فنورث لم يدك بدباباته لوس انجلوس، ولم يقود الــــــشبيحة في شيكاغو، عمل لتحرير رهائن أمريكان


الصورة الأخرى شرقية من اليابان، والصور من هذا البلد كثيرة، شاهد العالم سلوك الياباني عندما تعرض البلد لتسونامي،  هذا البلد الأنموذج في كل شــــيء، في ثقافته الاجتماعية والتنظيمية، وفي وروحه الجمعية الإنسانية السامية وفي منـــــــتجاته، الصــــورة لجنود يفترشون جسرا من القضبان الحديدة بأجسادهم ليعبر فوقها (يدعس عليهم) الرجال والنساء والكبار والصغار في محاولة من الجنود لإنقاذهم من الغرق. الجندي بلباسه العــــسكري ينبطح ليمر من فوقه المواطن. لم يرفعوا شعارات، ولم يفتحوا إذاعات تعمل 7/24 من الأغاني الــــــقتالية والــــحربية والوطنية. أي صـــــور للانتماء والإخلاص وحب الوطن أسمى وأنقى من هذه الصورة

أما الصورة الثالثة فهي عربية من عــــسكرنا الأشاوس في وطننا العربي الكبير بحجمه الصغير بحرياته، والعسكر هنا ليسوا الجنود والجيش فقط بل إن قائمة مسمياتهم تطول من مخابرات واستخبارات وسرايا دفاع وسرايا ممانعة، وشبيحة وسحيجة ودفيعة هذا البناء العسكري حول المجتمع إلى قلعة استبداد، وكعادتنا في الأرقام القياسية فقد حصدنا رقم قياسي في عدد الأمنيين والعسكريين لكل مواطن، الذين يحسبون على المواطن حركاته وأفكاره وأفعاله ونياته ما ظهر منها وما بطن، هذا البناء ينفق بغير حساب وبميزانيات مفتوحة، على حساب الصحة والتعليم والعمل. في وطننا العربي، أُنفق على القطاع الأمني والعسكري مليارات الدولارات لحفظ أمن المستبدين والطغاة، وتجويع الشعوب وقهرها فبنيت السجون على أحدث المواصفات، مواصفات أفضل من مواصفات  الأبنية المدرسية والجامعية. ووزعت جغرافيا لكي لا يتكبد المواطن عناء السفر لسجنه،  وعندما قررت الشعوب الانتصار لكرامتها وحريتها، قُتلت ونُكل بها، ووصفت حركات التحرر فيها بالخيانة والارتزاق، والإرهاب، والتآمر الخارجي. فخــــرق المستبدون حرمة المنازل، وقبلها حرمة شهر رمضان، فقتلوا واغتصبوا وشبحوا، وتفرعنوا. وما الـــــصور اليومية من المدن السورية، واليمنية والليبية إلا مثال على سلوك عساكر الاســتبداد، وعنـــــــدما حانت نهاية المستبد والطاغية كما هي الحال في ليبيا،  لم تنفع لا الكتائب ولا ســـــــرايا الدفاع والممانعة، فالقبضة الأمنية والعسكرية والحراسات سرعان ما تساقطت كأوراق الخــــريف، بعد أن تلــوثت أياديهـــــم بدماء الصغار والكبار. عينات الصورة العربية كثيرة من قص حناجر الأطفال، والتعذيب إلى إعلان الحرب على المجتمع ودكه بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة البرية والبحرية والجوية كما قادها طاغية سوريا. الصورة ربط أعين الشباب والدوس عليهم بالشوارع، وضرب رؤوسهم وإجبارهم على تمجيد الأسد، وهـــذه الصورة ليست حكراً على سوريا فهي الصورة العربية من المحيط إلى الخليج، وتــمثل أهم جوامع الأمة العربية.
هذه ثلاثة صور تمثل مفارقات حضارية وإنسانية كبيرة، للصور المشرقة جذور في ماضينا وليس حاضرنا، تجسد فيما قاله عمر ابن الخطاب متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وقـــالها الكواكبي في كتابه الرائع " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، بأن الأمة التي لا يـــشعر كلها أو بعــــضها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية"... حتى أنها تصير كالبهائم ، أو دون البـــــــهائم لا تسأل عن الحرية، ولا 

تلتمس العدالة، ولا تعترف للاستقلال قيمة. ويستشهد بقول المعر

 
                   إذا لم تقم بالعدل فينا حكومة    فنحن على تغيرها قُدراء


في صورتنا العربية القــــــاتمة الحاجة لتكوين بناء مجتمعي يحاكم الجاني والمجرم والجزار، لمحاكمة العسكر والبلطجية والـــشبيحة والشرطة والأمن وكل أدوات الاستبداد على جرائمهم،  العسكر والأمن هم أدوات الاستبداد، وهم عصا المستبد. فهولاء ليسوا جنود وطن ولكنهم مجرمي حرب وإبادة إنسانية. على النظام العربي الجديد، نظام التحرر والانعتاق من الاستبداد أن يرسي قواعد محاكمة المستبدين والطغاة، ومحاسبة عسكرهم، وشبيحتهم، وصون الحريات بتمتين التشريع والقضا


Image description

الاستاذ الدكتور ذياب البداينة

عدد المشاهدات لهذه المقالة 

Bookmark and Share